كائنات السيرة الذاتية

أب. الابن. الخيال

(نشرت في مجلة أمكنة، الإسكندرية، 2007)

دفَعَهُ الخيال نحو الشَّمال ثم عاد ليدفَعَني مثله أيضًا نحو الاتجاه نفسه؛ ليدفَعَني الشَّمال بدوره إلى تحليق مستمر ومثير في الخيال.

* * *



... ثم يراها للمرة الأولى في زيارة له للقاهرة، فيتأكد أنه قد جاوز بحر الخيال إلى بَرِّ الواقع وعَبَرَ من بوابة الحلم الطويل إلى الصحو الأطول والأشرس: صغيرة هي ومليحة، في السادسة عشرة وربما السابعة عشرة. إنها هي، فتاة الحلم الطويل والخيال العاصف المجنون. يُهاجر من دنياه البعيدة، يهاجر من بطن وروح السودان، ويُسكِن قلبه في قلب القاهرة.
يظهر غريمُهُ...

* * *


الحكاية هنا- حتى لا يتم تشويش القارئ- هي عن ثلاثة أشخاص: الأب الكبير (الجد) والأب الصغير والابن؛ حكاية خروج عن المكان مهَّد له الإحساس الغريزي الحر الباحث دومًا عن المكان الأنسب أو الأصلح للوجود والبقاء. هذا المُحرِّكُ- على الأقل- نحو حياة أفضل في المكان نفسه أو البحث عنها في مكان آخر إن لزم الأمر.


ملامح طفولة ونشأة الأب الصغير ما زالت مطموسة. مُجَرَّدُ نُتَفٍ عن سيرة يسيرة عاجزة عن تكوين مشهد عاديٍّ ليوم واحد له من الماضي. الأب الصغير بدوره يتجنب النزول إلى سيرته الخاصة بالصعود إلى العام والجماعي. هذا العام والجماعي الذي يتكرر في حديث عن زمن جميل ولَّى وعن حياة رائعة كانت. لكن ما هي هذه الحياة. كيف كانت. وهل بالفعل كانت جميلة كما سمعنا عنها. هذا السؤال المتمدد يحتاج لزمن طويل لمحاولة الإجابة عليه بجمع البراهين والقرائن والحكايات المشابهة والمخالفة. كأنها دراسة في الحفريات.
الأب الكبير هو الرب؛ رب العائلة. الكلمة الأولى له والأخيرة أيضًا. يخرج الأب الصغير من حالة الابن الخليفة البارِّ التابع الخاضع المُسيَّر المُجْبَر- إلى حالة الابن العاقِّ الهائم على وجهه، الخارج عن الطاعة والعُرف، الثائر على الحال، المغادر المهاجر إلى اللامعلوم.

ولع الأب الصغير- أبي- بالمغامرة كان عارمًا. بل قام بتنفيذها وتوقيعها؛ فغيَّرت من سيرة حياته. هذا المولود والعائش في بطن السودان كان يرى عالمه الصغير البسيط هو كل العالم، ومحيطه الضيق هو كل الدنيا. يبلغه هذا الضيق حين يتسرب إليه السحر يومًا ما، من حكايات تُحكَى وأقوال تقال، من راديو ينقل وكتاب يُقرِّب، ثم أخيرًا والأهم: يتسرب إليه السحر من شاشة تعرض لمكان ما في شمال النيل في حاضرة تسمى القاهرة؛ عالم آخر في هذا العالم، مرئي الآن وأكثر قربًا، مشحون بالتفاصيل والأحداث، عاجّ ببشر في أشكال وألوان، وبأبنية وصروح عجيبة، وبلهجة مفرحة بهيجة، وبعلاقات جميلة غريبة حميمة معقدة آسرة مربكة مفرحة.

كأن الطرق دائمًا في إفريقيا تؤدي إلى الشمال، حتى نهر النيل فيها يجري عكس كل أنهار الدنيا التي تجرى من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب أو العكس؛ نهر النيل هو الوحيد في أنهار الدنيا الذي يجري من الجنوب إلى الشمال.

* * *

الزمن الآن هو أول الخمسينيات والشاب الآن- أو الأب الصغير: أبي- في أوائل العشرين من العمر، لا خبرة له بمكان آخر غير ما نشأ فيه وعليه: بطن السودان– كوستي. فبعد أن يتسرَّب إليه السحر، يحاول التجريب والمجازفة– بتعضيد من المخيلة– بالذهاب إلى هذا المكان، إلى هذا العالم البعيد الموجود. هذا الذي هو خيال هنا لكنه واقع هناك، الذي هو خيال الآن لكنه واقع غدًا، فالأمكنة الضيقة تمنح دائمًا القدرة على الإفراط في الخيال، والأمكنة الواسعة قد تستطيع بجانب ذلك تنفيذ بعض منه.
يقطع الشاب الصغير مئات الكيلومترات، بدابّة وعربة وباخرة وقطار، للوصول إلى الموقع الساحر هذا، ليصل إلى القاهرة، يراها الآن رَأْيَ الْعَيْن، يرى الواقع– الخيال، أو الخيال– الواقع.
ثم يراها للمرة الأولى في زيارة له للقاهرة، فيتأكد أنه قد جاوز بحر الخيال إلى برّ الواقع وعَبَرَ من بوَّابة الحُلم الطويل إلى الصحو الأطول والأشرس: صغيرة هي ومليحة، في السادسة عشرة وربما السابعة عشرة. إنها هي، فتاة الحلم الطويل والمغامرة العاصفة المجنونة. يهاجر من دنياه البعيدة، يهاجر من بطن وروح السودان، ويُسكِن قلبه في قلب القاهرة.
يظهر غريمُهُ. هو ابن عَمِّها، يريدها هو الآخر. وهو القريب الأوْلَى. يهرعان إلى أمها يطلبانها في آنٍ. يكون الرد: "مَنْ يعود منكما أوّلاً، يفوز بها!"

الشاب الصغير – أبي – يعود إلى السودان ملهوفًا قاطعًا الأميال غير مصدِّق، يودّ مباركة الأب الكبير، يودّ الرضا. لكن الأب الرب يرفض هذا المروق والنأي للشمال للحاق بركب غريب، شمال يراه لم يفعل شيئًا في مصلحة الجنوب، شمال يراه مازال يفتخر بأصول تركية أو شركسية ويصر على التأكيد على سريان عروق إنجليزية أو فرنسية في نسله، شمال لم ولن يفتخر يومًا بأصول صعيدية أو نوبية أو سودانية، شمال يتشدق بأن أهل الصعيد أهل أخلاق وشهامة ومودة وأن أهل النوبة والسودان أهل طيبة ورجولة وكرم. لكن ما يزال هناك خيطٌ خفيٌ يقطع الوصل بالفصل ويوصل الشمال الإفريقي بالشمال الأوروبي بقدر ما يستطيع.

يرفض الأب الكبير أن ينتهي الابن في الشمال، أن يصير هناك في ملعب شبه الأعداء، لكن الابن قد خلص إلى قراره، قَسَم قلبه لقسمته هناك في قلب القاهرة، وعليه أن يبرّ بقسمته وقسمه قبل الغريم وقبل ضياع الخيال– الواقع الذي رآه.
تكون القطيعة من الأب الكبير هائلة وينزل البتر والحرمان من ميراث طيب على ابن وحيد تبع هوى قلبه وخيال عقله؛ تكون قطيعة تناقضية من الأب الكبير الذي تزوج ثلاث عشرة مرة وله فقط هذا الولد الذكر الوحيد.

ويخرج الأب الصغير- أبي من شبه النعيم إلى شبه نعيم. يقطع مئات الكيلومترات متجهًا إلى الشمال متتبعًا ومحاذيًا ومقلدًا مجرى النيل.

يمكنني أن أتخيل كيف كان شعوره وهو يخرج هذا الخروج المؤذي. يقطع ما يقرب من ألفي كيلو متر خلف هذا السحر المكنون الذي ربما يكون سرابًا ووهمًا. يمكنني أن أستعيد كيفية قطع هذا الشاب- في أوائل الخمسينيات إبّان مرحلة ثورية حاسمة ومنعطف سياسي جديد لمصر والسودان- كل هذا الطريق، ليضع نفسه على الحدود؛ حدود القبول والرفض؛ حدود الخيال والواقع؛ حدود تغيير النمط والمجتمع والأعراف؛ حدود تشكيل الهوية الإضافية. ثم أخيرًا وعمليًّا، ليضع نفسه على حدود "سلاح الحدود" وهي وظيفته التي رافقته طوال عمره، ليكون حارسًا لحدود وطن كبير اسمه مصر، ليصير مجندًا في هذا المكان لأربعين عاما، ليحكي لي يومًا متأذيًا من تغير الأحوال ونكران الجميل، يتأذى حين يسمع من أرملة صديقه السوداني المتوفى ورفيقه الحميم الذي خدم كل عمره في مصر، أنها أهينت وهي واقفة في طابور المعاشات لتحصل على حقها من معاشه الضئيل، وهو ما اعتبروه تسوُّلاً منها لا حَقَّ لها فيه.

ويكاد الأب الصغير يضيع مع زمرته في حرب 67، فهم هناك الأوائل المتصدرون عند البوابة الشرقية لمصر، على الحدود بين رفح المصرية والفلسطينية. هؤلاء هم حرس الحدود ممَّن خرجت عليهم الدبابات من الماء وهاجمتهم الطائرات من الهواء، فهرعوا للصحراء وهاموا فيها أيامًا، كانوا يستبدلون فيها جرعة ماء أو حليب أو قطعة خبز بكل ما كانوا يمتلكون من مال قليل وملابس وساعات وخواتم وأحذية عسكرية، ليعودوا بعد أيام مضنية مثل الأشباح الضامرة مجرّحي الأجساد مرهقين نفسيًّا، منهزمين. مات منهم من مات، ومن عاش بقي ليحكي حكايات لها العجب.
أبطالٌ بحق مهضومو الحق ماتوا في الظل ورُدِم عليهم بالنسيان، وأبطالٌ آخرون تم جبر خواطرهم ببعض الميداليات والشارات والكلمات والشعارات، وأبطال أعظم من هؤلاء وهؤلاء تم تلميعهم وتصنيعهم وتعليبهم كأبطال مقدسين دون أن تخدشهم شظية مسكينة أو أن يسمعوا دويا لضربة.

* * *


"لقد قرأنا فاتحتها على الطيب، وكل شيء قسمة ونصيب!"
تقول أمها المولودة في مدينة دمياط، حين يصل الغريم متوقعًا فوزه بابنة عمه المولودة في بورسعيد. فقد نجح الأب الصغير- أبي- في أن يعود إلى مصر قبل يومين من وصول غريمه؛ فيخرج ابن العم من مصر نهائيا إلى أراض جديدة. يذهب إلى الحجاز لخيال آخر مازال يعيش فيه.

* * *


الشاب يترك كل ما له وراءه من أجل زوجة، تكون تلك الزوجة هي حياته كلها، وتصير له تعويضًا لكل ما تركه وتصبح له البداية والمولد والوطن الجديد.
الخيال يتحقق، والوجود الآن ليس على شاشة السينما. الوجود الآن في الفيلم. داخل هذا الفيلم- الخيالي الدائم المُعاش. يعيش ليفرح ويترح، لينجب ويربي، ليس وحده بالقطع (الأم لها حديث آخر مطوَّل في كتاب الأمهات المنسيات) ويعمل ويكدح ثم يرحل إلى مكان كل الراحلين، تاركًا زوجة وثلاثًا من البنات وثلاثة من البنين ومكتبته الصغيرة وأملاكه البسيطة من بيت صغير ومعاش متواضع، ويضيع من قبل بيت العريش في حرب 67، وتضيق الأمور والحياة بعد حرب 73 ثم تنفرج للمنفرجين وتتغير الأحوال بعد أقل من عقد ليكتشف الابن الأصغر – في صدفة نفس عمر الأب حين هاجر- يكتشف أنه عاش أيضًا في مصر بجنسية سودانية، وهو لم يكن يأخذ هذا الأمر بأنه يشكل فارقًا في الحياة على هذه الأرض؛ فاللسان قاهري والحياة والنشأة قاهرية والسودان يسير موازيا لمصر يجري في القلب والقالب دون حدود. لكن البعض يريد الحدود ويبحث عن تصنيف الهويات ويتسع الشرخ.

* * *


تكرار آخر للمغامرة من الابن الأصغر هذه المرة. كأنه بحث أزلي عن روح ما عبر المغامرة. كأن السيرة تتكرر بمضاهاة مبتكرة في بعد نصف قرن ونيف. نشأة في عالم بدا لي كأنه الأزل في كل شيء. لا أرى جَدًّا لي، لا من جهة الأم ولا من جهة الأب. أسمع حكاياتٍ باهتةً عن جَدِّي لأمي، الغائب في مدينة جدة، حكايات تغيب عن الذاكرة، ولا أعلم سبب غيابه. الجدة هي من تتحمل العائلة النسائية بأكملها من أم وابنتين وليس أخوها من يعاون. جدي لأبي ما زال غير واضح المعالم، الكلام المُقال عنه قليل، ويبدو لي في مجمله مُبالغًا فيه، من حيث السطوة والمال؛ فكيف يكون جدًّا بهذا اليُسر ونحن نعيش هذه الحياة العادية البسيطة.

نشأة في عالم بدا لي كأنه الأزل في كل شيء. في عين شمس أو مدينة الشمس، في هذه المنطقة الفرعونية القديمة تكون بيوتنا– على حد علمي- ربما هي الأولى التي تعمّر فيها بعد آلاف السنين. مكان شبه مهجور لا يؤخذ في الحسبان من معظم العائشين في قلب القاهرة. مكان ليس بعيدًا عن القلب، لكن يكفي أن تذكر لأحد- من غير أهل هذا المكان أو الأمكنة الأبعد- أنك تقطن في عين شمس، لتسمع منه كلمة: "ياااااه! ساكن في آخر بلاد المسلمين؟ في الصحرا؟" كأنك فعلاً تسكن في المريخ. هذا الأمر غالب في قاهرة المُعز. القليلون هم من يريدون أن يتعرفوا على كل مدينتهم، القليلون هم من يعترفون ببقية الأطراف. التركيز دائم على عين القاهرة على مركزها وبؤرتها. البعيد منسي ومهجور بل أحيانًا يُنظَر له على أنه هو الدخيل الذي يرغب في التطفل على أصل المدينة. قليل هم من يتذكرون، والأقل هم من يرغبون عن حق وجد في التعرف على التاريخ.

حين كنت طفلاً صغيرًا أبتعد إلى أطراف عين شمس جهة الشرق في الطريق الأزلي من سيناء أو إلى سيناء، كان هناك حس غريزي غرير بأنني أول من وَطِئَ هذه الأرض التي كنت أسير عليها، فالرمال مستوية من الريح، وزجزجاتها المتناسقة تتيح للخيال أن يحلق في مثل هذه الأحلام. لكن ما إن تصطدم العين ببدوي أو بدوية أو دابة حتى ينتهي الظن إلى أن هناك من سبق وأن سبقي المزعوم هو مجرد وهم مؤقت.

طفولة أخرى ثرية في شمال سيناء حتى عمر السابعة قبل أن يضيع البيت بما فيه في عام 67، وطفولة أكثر ثراء في قلب القاهرة، في الحسينية تحديدًا، محل سكن الجدة للأم. فهناك موالد تدفع للخيال، مقام يدفع للخيال وأفراح وطهور ومآتم ونذور وزار، وعراك وحرب وعدو، وعبد الناصر وجولدا مائير وعرفات والنميري وجونسون ونيكسون وبرجنيف ونهرو، وإسرائيل وفلسطين، ومحمود المليجي وهند رستم وتحية كاريوكا وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب و... ثم حكايات لا حصر لها عن الجن والعفاريت وعن الشياطين والملائكة.
كانت طفولة في أوائل الستينيات في مثل هذا المكان. طفولة لم تر بعد شاشة فضية ولا سينما. طفولة الإنصات والاستماع. طفولة الراديو والكِتاب والحفظ. كل هذا كان باعثًا على التخيُّل. "الله هناك في السماء" يُقال لنا. فأنظر للسماء طوال الوقت أريد أن أراه. "الله يَرَى ولا يُرَى" يُقال لنا. تصطدم الأذن بمثل هذه الردود. فيتيح نقص الرد مجالاً أوسع للتفكير وللخيال. الحكايات عن الجن والعفاريت والشياطين والملائكة تعشش في الذهن وتتشكل مع الزمن في المخيلة لتتهيأ فيما بعد في الولع بعالم الخيال.
أكتشف مكتبة الوالد وولعه بالقراءة وربما كان هذا هو الدافع الذي جعلني أقرأ مبكرًا. أتعلم الأبجدية قبل المدرسة، وأزور الكتاب، وحين يراني الجار- الطالب بالثانوية العامة- وأنا أقرأ في كتابه المركون على بسطة السلم، يضربني على رأسي بعقلة إصبعه ضربة مؤلمة ويتهكم عليَّ بأنني أحاول تقليد الكبار، فأغضب قائلاً: "لكن أنا باعرف أقرا!" حدّتي تجعل تهكمه يهبط بالكتاب إلى مستوى وجهي ويقول: "اقرا.. وَرِّيني شطارتك يا فالح!"
أقرأ من الكتاب. الآن لا أتذكر ما قرأت لأنني لم أفهم، لعلها كانت مادة الأحياء أو الفيزياء. قرأت له بسرعة، فبدأ يقلب الصفحات ليختبرني. ثم صرخ: "الواد بيقرا بجد.. الواد طارق بيعرف يقرا.. مش معقول!" أتذكر كيف حملني في ذاك اليوم على كتفيه وظل يجري في الطريق كالمجنون، وأنا أتقلقل على كتفيه كأنه جمل يركض بي، وهو يقول "طارق الطيب بيقرا .. الواد بيقرا!" كانت هذه تحيته لي واعتذاره في آن. ظل لوقت طويل كلما رآني يتأملني بدهشة ويعاملني معاملة جد مختلفة.
من هذا اليوم عرفت قيمة وسطوة واحترام القراءة.

في فترة الطفولة هذه، وقبل تعلمي لأي حرف، كان تقليدي لوالدي في قراءة الصحف مستمرًّا. يفتح جريدته وهو مُستلقٍ على السرير ويقرأ. آخذ أنا صفحة من الجريدة وأقلده وأعيد التقليد والتقليب بعد أن ينام في تلك القيلولات الصيفية القديمة.
بعد التمكن من القراءة يبدأ الكتاب في تحريك الخيال. ثم تدخل السينما إلى عالمنا وبعدها التليفزيون. أواصل مسيرة الوالد دون أن أدري. بل أشارك في أدوار صغيرة جدّا في ستة أفلام نمساوية وألمانية؛ فضولاً مني لرؤية هذا العالم عن قرب.
السينما- دار الخيالة هذه- تنقل لنا أمكنة بعيدة، نركض وراء هذه العوالم البعيدة ونجهز أنفسنا لركوب فرسها الجامح لنهبط عند تلك الجنة الوردية. وبينما كانت الأقوال المعتادة تُصِرُّ لنا على جَنَّةٍ بعد الموت، كان الخيال يرسم لنا جنة في الحياة، يحكي لنا عن جنة قبل الموت، وبالغريزة الخفية يفوز الخيال العائش على خيال ما بعد الموت.

* * *


حياة الطفولة الطويلة- القصيرة تلك، لم يُجَب فيها على كل الأسئلة للطفل الذي لازمني، جعلني هذا ألجأ إلى التأليف والاختراع الحُرِّ والرَّحب لتعويض المنقوص، فمنحتني الإجابات التي أختلقها لنفسي- آفاقًا بلا نهايات.

وينتهي الابن الأصغر- أنا- من دراسته ويتلاشى الأمل الدائم بعمل طيب محترم لخريج حديث، ويستأنف لدراسة الماجستير، لكن تتدخَّل أقدارٌ عجيبة تحرمه من تحضير أطروحة الماجستير لأسباب مالية سخيفة، لأنه هكذا بقدرة القوانين واللوائح المستحدثة قد أصبح بين يوم وليلة من طائفة غير المصريين، فيأتي القرار الأخير بالخروج والمغادرة؛ فلا أمل الآن في القاهرة لتقدم له أدنى فرصة للبقاء.
ويعود التفكير في الخروج إلى أي مكان؛ خروج عن المكان تمهد له المغامرة، فالعمل المعروض بَخْسُ القيمة مُهْدِرٌ للكرامة ومضيع لأيّ معنويات تَبَقَّتْ، ولابد من البحث عن مكان آخر؛ عن مكان أفضل.

ويأتي السفر الأول لمكان لم يكن في الأحلام ولا الكوابيس، لكنه كان المكان الوحيد المتاح للسفر دون فيزا أو كفيل. يكون السفر الأول إلى شمال العراق، إلى بلاد هارون الرشيد، لكن بعيدًا تمامًا عن عزِّ القصور أو حتى عبقها القديم، وقبل أن تبدأ الأمور في استقرار مؤقت. يصبح التهديد بالموت أقرب إليَّ من حبل الوريد. الطريق الذي بدأته من مطار الكويت- عبر حدود سفوان أو صفوان- قاطعًا طول العراق حتى أربيل، أُكمِله بعد شهور قليلة مغادرًا عبر "زاخو" ثم اسطنبول، ومنها للقاهرة، في رحلة مضنية خطرة عجيبة. أعود بعشرة دولارات من كل هذه الشهور الطويلة يأخذها سائق التاكسي الذي أوصلني للبيت بحنق شديد وأنا أترجَّاه أن يقبلها، فليس معي غيرها. الشنطة الضخمة الفارغة التي معي ومظهري المنسق المهندم لا يجعلانه يصدق مثل هذا البخل. ينصرف غاضبًا أو لاعنًا وأصعد سلالم بيتنا في عين شمس مستريحًا خفيفًا ثقيلاً، لا أدري أي شعور يمكن وصفه الآن لحالتي وقتها سوى أنها كانت أشبه بحلم طويل ثقيل. لم تكن رحلة بل كانت كابوسًا.
أعود قبل الموت بخطوة؛ أعود بعد أن شاهدت الموت يزحف كل يوم إليَّ، بعد أن رأيت تلك الرصاصات الطائشة على حائط المسكن والمطعم، وبعد حضور متكرر لأولئك المسلحين الصامتين المنتظرين رد اعتبارهم وشرفهم لخطيئة لم أكن على علم بها.

* * *


لكننا شباب الثمانينات؛ الجيل المغضوب عليه نفطيًّا، حيث لم يمنحنا الحظ درجة القرب من نعيم النفط الجميل، وإن كنا في تلك الفترة مازلنا محظوظين بآخر فرص الاندفاع نحو الشمال بعيدًا عن تلك العوائق الحالية المستحدثة.
بعد هذه الرحلة الكابوس يأتي القرار الأخير بالخروج والمغادرة. الدفع يكون كما كان للأب؛ إلى الشمال، إلى العالم المجهول. أيّ مكان سيكون أفضل وأي حال ستكون أخفّ وطأة.
الأب لا يمانع؛ تجربته القديمة تشفع لي رغم أنها مازالت منقوصة الحكاية، ورغم أن قلبه لا يريد فإن عقله يوافق.
لم تكن أوروبا للابن الصغير أكثر من خيال بعيد مؤجل أو خيال مكلِّف لا يتحقق، بسبب عدم القدرة على تدبير تذكرة سفر غالية. مبلغ بسيط بالقياس بمبالغ اليوم المهدرة في أشياء تافهة.

* * *


فيينا هي المكان. أسمهان تكون قد سبقت بأغنيتها ورتبت منزلاً وثيرًا في الخيال. الجنة التي يريدها البعض لنا بعد الموت، هاهي على بُعد لحظات من هبوط الطائرة. لكن الجو هنا ضبابي. وما كل هذا الصقيع. هل هي مبادئ الوصول إلى الجنة أم إلى الموت.

الدخول إلى هذه الروضة من الجنة كانت تغلفه الشبهات والتوجس، فالمنظر من الطائرة يوحي بشكل جنة لكن البرودة المبالغ فيها توحي بعكس ذلك؛ فالجنة كما علموني عكس النار والسعير واللظى وجهنم، هذا البرد لابد أن يكون مرادفًا للجنة، لكنها تصبح مع الوقت نوعًا من البرودة الجهنمية أو جهنم الباردة، وهذا يعني على نحو آخر أن الموت فيها سيكون ببطء. هكذا شعرت في البداية. وأكثر ما آلمني هو عدم قدرتي على التحاور مع ملائكة هذه البلاد، وكنت أعتقد أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة كما قيل لنا، فوجدتها هنا اللغة الألمانية.

غياب اللسان على أرض الواقع خلق حسًّا جديدًا، خلق مهارة جديدة للعين بالتأمل، فمع غياب وظيفة الأذن في عدم فهم ما يقال، كان على العين أن تتطور لتعوض مهمة الحاسة المفقودة؛ لتسمع العين. على العين أن تتابع حركة الأجساد والإيماءات وأن تحاول أن تخلق قاموسًا حديثًا وأن تتخلى بصعوبة عن قاموسها القديم.

وهكذا كان حالي في وحدتي إلى أن بدأتُ أدثرها بتعلم اللغة الألمانية، وبالخروج من عوالم كافكا التي لم أكن قد خبرتها إلا نظريًّا، لتصير واقعًا مُعاشًا. كان العالم الجديد للعمل أكثر من بائس، ولم يكن هناك خلاص قريب منه، فاعتبرتُه تجربةً أعمق، لكن تلك التجربة دامت لعام ونصف، وكانت جسديًّا مؤلمة ونفسيًا مؤذية.
الأعمال التافهة التي تبعَتها ظلت على نفس الوتيرة؛ مجهود بدنيٌّ حقير يمنح تعلمًا وخبرة، لكنه ينحت في الجسد، يمنح العقل بَرَاحًا للدخول عبر أبواب لانهائية، لكنه يحتاج إلى رزمة جديدة من المفاتيح؛ فعلى بُعد مسافة لا تزيد أكثر من ثلاث محطات بالترام من بيتي، يوجد واحد من أجمل متاحف العالم، وعلى بُعد محطتين فقط من السكن توجد أوبرا فيينا، وعلى بعد محطة واحدة قناة الدانوب، بينما أنا غارق في عالم بائس مهموم، بإهدار طاقة الجسد في مكافحة البرد، وطاقة العقل في مجابهة الفقر داخل مدينة غنية، قلبها دافئ وعقلها بارد.
كنت قد ظننت أثناء هبوطي في فيينا في الثاني عشر من يناير 1984 في ذلك الحي الثالث- ظننت أنني على أطراف فيينا أو خارجها. فالجو هادئ لا صوت لنفير أو زعيق أو حتى لبشر، شيء أشبه بقرية وديعة نائمة لا مدينة عصرية. لم أكن أعلم أن هذه المدينة تمنع استعمال آلات التنبيه، فهي تعتبرها وتستخدمها فعلاً للتنبيه. أمر غريب.
بل ما زاد من سذاجتي واعتقادي بالجنة حقًّا. هذه المجانية التي سأسمع بها بعد قليل، ففي اليوم الأول لوصولي لم أعثر على الشخص الذي كنت سأنزل عليه. العنوان صحيح لكن لا أحد يرد. أقف أمام الباب أكثر من ساعة في ذلك البرد القاسي ولا أعلم إلى أين يمكن أن أذهب. أقف وشنطة سفري أمامي أحمل فيها كل عمري القاهري؛ ساعة أشبه بدهر كامل. لا أحد يفتح الباب ولا أرى من يمكنني التفاهم معه. من يمر بي في الشارع لا ينظر إليَّ، ومن يدخل البيت ينظر لي تلك النظرة العاجلة الخائفة المرتابة ويتأكد من إغلاق الباب خلفه جيدًا.
حتى هلّ شخص ضخم، غطست طاقيته في رأسه من البرودة، عليه معطف ثقيل منتفخ. لم أتأكد من جنسيته تمامًا، فالملابس في كثير من الأحيان تخدع. وقف أمام الباب. ضغط على الزر نفسه، فارتحتُ قليلاً، ها هنا من له نفس هدفي. نظر كلٌّ منا لوجه الآخر بذات النظرات السريعة الفاحصة، ثم بادَرَني إن كنت أسال عن عادل، أجبت بنعم. ضغط على الزر طويلاً ثم أكَّد لي أنه غير موجود، ثم حثني على السير معه للمبيت في مكان آخر، وهي قصة طويلة مثل كابوس.
في الترام أردتُ أن أدفع قيمة التذكرة ولم يكن هناك كمساري في الترام لكن مرافقي بادرني:
"الركوب هنا مجانًا!"
"ما أجمل هذه البلاد!" قلتُ في نفسي، لأكتشف في اليوم التالي أن وسائل المواصلات في هذه المدينة هي من أغلى وسائل الموصلات في أوروبا كافة وإن كانت من أجملها، والحق يقال.

* * *


الأب الصغير الذي عانى في سفره وخروجه الأول لم يمانع في سفر الابن، بل باركه وتمنى له التوفيق. وظلت علاقته به وبزوجة ابنه علاقة أكثر من طيبة، لاسيما أنها كانت تكاتبه بلغته العربية في رسائل كثيرة متبادلة، ليأتي الأب بنفسه في أحد الأعوام لبضعة أسابيع إلى هذه الـ"فيينا" المسمَّاة بالجنة.

ولا تتوقف المراسلات البريدية بيننا.

ويُرسل لي للمرة الأولى – بعد إلحاحي الطويل- بسيرة العائلة كاملة؛ عائلته في السودان؛ عن الجد والجدة والعمات والأقارب وعن تلك الحياة المختفية، وأخيرًا عن خروجه. يكتب أربعين صفحة كاملة كما ذكر لي. ويتصل بي، كأنه تخلص من دَيْن قديم، مؤكدًا أنه أرسل في ذاك اليوم من عام 1994 مكتوبًا سيسرني. أظل أنتظر أيامًا وأسابيع وشهورًا. يغادر أبي الدنيا في نهاية ذاك العام، وأنا مازلت أنتظر الأربعين صفحة الممتلئة بالحكايات والأسرار اللانهائية.
يغيب الأب الكبير في السودان ويغيب الأب الصغير في مصر وتغيب الرسالة الطويلة في الطريق إلى فيينا ويبقى الابن الصغير مع الخيال والواقع لاستكمال سيرة لن تنتهي.
 

فيينا في 1 ديسمبر 2006