حوارات

حوار (جريدة الشرق الأوسط) لندن
شذى عثمان


حدثنا عن جائزة الشعر العالمية ببوخارست ومشاركتك بها؟
بدأت فكرة أكاديمية (شرق– غرب) قبل ثلاثين عامًا، بالتحديد في عام 1977 من قِبَل الشاعر الروماني وراعي الفكرة دوميترو إيون والشاعرة كارولينا إليكا. ويقام هذا المهرجان المعروف باسم ”كورتا دي آرجيش“ سنويا. توقف نشاطه لمدة 21 عامًا ليعود مجدَّدًا بدءًا من عام 1997 واستمرَّ بلا انقطاع حتى الآن.
دعيت من قبل الشاعر رئيس الأكاديمية وكارولينا إليكا المسئولة عن البرنامج للمشاركة في الدورة الحادية عشرة. أوشكتُ أن أعتذر؛ فقد كنتُ توًّا عائدًا من سويسرا من مهرجان المتنبي، وفي غضون ستة شهور كنت قد سافرت أكثر مما ظننت، لإحدى عشرة مدينة في الداخل والخارج: من الإسكندرية إلى ليوبليانا إلى أسوان إلى بلجراد إلى زيورخ إلى بازل، ومن كل مدينة عودة بالطبع إلى ڤيينا ثم انطلاق جديد منها، هذا غير اللقاءات الأخرى في مدن النمسا البعيدة خارج العاصمة. وكان من حسن حظي أنني وافقت على حضور المهرجان في رومانيا. اقتنيت تذكرة سريعة عبر الانترنت وسافرت، لأشارك ضمن أكثر من أربعين شاعرة وشاعرا، كلهم على مستوى رفيع، كل واحد منهم كان جديرًا بالفوز بالجائزة الكبرى.
تقدم أكاديمية (شرق– غرب) أربع جوائز أخرى فرعية بجانب الجائزة العالمية الكبرى للشعر: جائزة البلقان للشعر، جائزة شرق- غرب للفنون، الجائزة الوطنية للأدب، والجائزة الأوروبية للشعر. وقد فاز من قبل بهذه الجائزة العالمية الكبرى للشعر العديد من الأسماء المعروفة مثل مخايل رينجيوف من مقدونيا، مانويل دياز مارتينيز من كوبا، جون إف دين من أيرلندا، ساتوكو تامورا من اليابان، أنطونيو بروبيتا من إسبانيا وغيرهم.
فوجئتُ بالحصول على الجائزة في الليلة الأخيرة ولم أكن أبدًا أتوقعها، وكنت قبلها بدقائق أكثر من سعيد بأن أحصل على تكريم خاصٍّ عن قصائدي المقروءة- مع شاعر من البرتغال وشاعرة من النمسا- إضافة إلى عضوية تكريمية لي بأكاديمية (شرق– غرب).


ماذا تناولت قصيدتك التي نالت الجائزة الأولى؟
الجائزة العالمية الكبرى في الشعر لا تُعطى عن قصيدة واحدة. هم تنبَّهوا لي بعد قصيدتي الأولى التي ألقيتها في اتحاد الأدباء في بوخارست في اللقاء الأول، وقال لي رئيس الأكاديمية- في اليوم الأخير- إنهم كانوا قد أضافوا اسمي لقائمة المرشحين بعد هذه القراءة الأولى. تمَّ منحي هذه الجائزة بناء على القراءات التالية لي ومراجعة اللجنة لأعمالي ونشاطاتي ومراجعة سجل الأعمال والقصائد المنشورة لي في الأنطولوجيا الرومانية لعام 2007 وفي صفحتي الشخصية، فضلاً عن ذلك، ذكر لي الشاعر دوميترو إيون أنه كان يعرفني من لقاء سابق في مهرجان ستروجا العالمي في مقدونيا في عام 2003 وأنه يتابع كتاباتي وكان قد قرأ لي ديوانًا بالمقدونية من ترجمة وتقديم الشاعر المقدوني المعروف إفتيم كليتنيكوف، نُشِر عام 2005 ضمن الكتب السبع، السنوية، التي ينشرون فيها كتابًا واحدًا من كل قارة.


هل تشكل تلك الجوائز تحديا للكتابة أم تراها مرفأ وصلت إليه بعد عناء؟ وهل تساعد تلك الجوائز في التقريب أو التعريف للقراء الغربيين؟
الجوائز لا تشكل أبدا تحَدِّيًا للكتابة، فهي ليست ترفا في جوهرها وإنما مسئولية إضافية على عاتق الكاتب. الغبطة هنا مؤقتة؛ لأن الأعمال التالية سيُنظر لها بكثير من النقد والتمحيص والكاتب سيصاب بنوع من الحذر والحساسية.
الجائزة ليس لها مقابل مادي على غرار الجوائز الغربية من الدول الغنية؛ فرومانيا ما زالت دولة خارجة من عبء سياسي ثقيل الوطأة، واقتصاديا ما زالت تجاهد للوقوف على قدميها. الجائزة الكبرى معنوية أكثر منها مادية؛ لذا فهي ليست مرفأ ليركن الشاعر قاربه وأدوات صيده ويخرج بحوته الكبير مُباهيًا. وقد ذكرتُ في هذا السياق قبل أيام قليلة بأنني ما زلت أسبح في بحر الكتابة، ما إن أصل لشاطئ حتى أبحث عن غيره. اعتقادي بأن البحر هو الأصل والشاطئ استثناء. واستراحتي الاستثنائية على الشاطئ قصيرة للغاية، فقط لأتأمل معنى البَرِّ، قبل أن أرمي بنفسي مجددًا في الأصل.
أرى أن الجوائز الأدبية تشكل تقريبا وتعريفا للقراء الغربيين والشرقيين على السواء. الجائزة تخلق فضولا للتعرف بغير المشهورين أو بالمغمورين، وهذا فضول حسن ويرغبه كل شاعر وكاتب؛ يُسعده أن يرى أن عمله الأدبي أو الفني عليه قبول وأن هناك من يقرأ ويتابع، وإن كان الغرب أفضل منا بمراحل في تقييمه للأعمال ومسارعته بعمل ترجمات وإرسال دعوات للكتاب لتقديم أعمالهم بأنفسهم قبل موتهم وطلب نماذج من كتاباتهم للمشاركة في دوريات وأنطولوجيات جادة تحترم الكاتب.

برأيك ما هي الموضوعات التي تشغل شعراء العصر الحالي؟ البحث عن الروح المفقودة، معاناة الإنسان رغم التقدم؟ وذلك بعد أن ضلت جزيرة الحب عن بوصلة الشعراء الحاليين..
الشغل الشاغل لقليل من شعراء العصر الحالي هو البحث عن طريق جديد للتواصل الإنساني مع البشر عبر الكتاب أو المكتوب؛ عبر الفن بمعنى أوسع. الروح ليست مفقودة تمامـًا وإلا على البشر السلام. الروح ضلت في كثير من الأحيان وكثير من الأمكنة، والتواصل الطبيعي بين البشر يتجه ليصبح من الاستثناءات. أكثر كلمة يمكن أن تسمعيها الآن من شخص هي كلمة ”أنا مشغول!“، لم يعد أحد يقدّر هذه الأهمية من الوقت المستقطع للأصدقاء والأحباء، لم يعد هناك ما أسميه ”حق الوقت للآخرين“.
العولمة ربما كانت على صواب في بداية توجهها الإنساني، لنكتشف بعد أعوام قليلة أنها أضحت ”مصيبة“. نحن نعيش في عالم واحد لكنه متشرذم، قريبين مجازيًّا لأقصى حَدٍّ من بعضنا البعض عن ذي قبل، لكن كل واحد منا يعيش في جزيرته الخاصة مع نفسه داخل عالمه الافتراضي النائي.
جزيرة الحب ما زالت موجودة، لكن الزمن تغير ووسائل الوصول تغيَّرت؛ والتواصل والتكامل بين الفلاح والعالم والصانع والشاعر والسياسي والاجتماعي والاقتصادي .. إلخ يتجه للانقراض. الدورة البشرية الطبيعية في انقطاع. هذا التشرذم والتشظي في الأدوار يخلق بالتأكيد مسخًا اجتماعيا وشروخًا اقتصادية يصعب ترميمها.


عيشك مغتربا عن وطنك قد يحصر ”ميدان“ مؤلفاتك في الغربة واختلاف الثقافات؟ فكيف أثرت حياتك الخاصة على نوعية كتاباتك؟
إن هذا التصور والافتراض غير صحيحين بالمرة. الاغتراب ليس ابتعادًا فيزيقيا عن الوطن. الاغتراب هو الابتعاد الروحي عن الوطن وعن الأصول. كيف يمكن لي ذلك وأنا ما زلت أتحدث لغتي العربية كل يوم وأقرأ بها, استمع لها وأتابعها وأشارك بها. الثقافة الجديدة أضافت إلى ثقافتي الأصلية وحسَّنت منها وطعّمتها وتزاوجت معها. لا أوافق على مقولة ”اختلاف الثقافات“. الثقافة مَعينٌ واحد عظيم لا ينضب، متاح لكل من يطلب. الموسيقى مثلا ثقافة لا تحتاج إلى ترجمة، الرسم والنحت ثقافة لا يحتاجان إلى ترجمة. الاختلافات قد تكون في أشياء مثل اللغات وأساليب الحياة والعادات والتقاليد والمظاهر الخارجية.
ڤيينا أتاحت لي الكثير وعرَّفتني بالكثير وفتحت أحضانها لي بعد أن فَهِمَتْني وفهمتُها، وكنت أعلم أنني أنا الغريب عنها وليست هي الغريبة، وأن أول شروط هذا الزواج هو مهر غالٍ، قبلته، فأكسبني جَمْعُهُ خبرة عظيمة أفادتني.
أما تأثير البيئة الجديدة على حياتي وأدبي؛ فهذا وارد وضروري. عالمي الجديد منحني مجالاً خصبًا للرؤية عن قرب وعن بعد، فسهُلت بعده الكتابة، بعد أن فهمتُ الحياة هنا بعادتها وتقاليدها، بجمودها ومرونتها، بجمالها الكثير وقبحها القليل، بسهولتها وصعوبتها، ببريقها وانطفائها.. إلخ. كل هذا لابد أن يكون مؤثرًا وينبغي أن يظهر في كتاباتي بوضوح، خصوصًا أنني استوعبت الآن- وأظن ذلك- هذا العالم الذي لم يعُدْ بَعْدُ جديدًا عليَّ؛ فأنا أعيش فيه منذ ربع قرن. كنت وما زلت أخشى الكتابة عما لا أعرف في ڤيينا. الآن أكتب بإصرار وبكل حرية.


ما هي اهتماماتك الرئيسية ككاتب؟
اهتماماتي الرئيسية ككاتب- موضوعيا- هو محاولة الوصول بما أكتب إلى عدد مناسب من القراء الجادين لعملي، مما يؤسس محاورات معي مباشرة أو مع المكتوب في غير وجودي؛ ومما يؤدي إلى فهم متبادل وكسر حدود الانغلاق الإنساني المعتم.
الكاتب ليس بطلا. الكاتب له دور أساسي على الأمد الطويل وفي غاية الأهمية، ولابد أن يكون له دستوره الخاص وبرلمانه الأدبي الأوسع في غير شكله السياسي.


يقولون إن في كل عمل روائي لأى كاتب جزءًا من الأوتوبيوجرافي؟ ما تعليقك؟
كتبت قبل أسبوعين التالي:
(لكل نصٍ مكتوبٍ منّي ثلاثة أطراف: طرفٌ من الواقع وطرفٌ من الخيال وطرفٌ أخير لم أدركه بعد. هذه الخلطة تأتي عفويًّا وقد يفسدها غلبة طرفٍ على آخر.)
هذا الطرف الذي أقصده من الواقع لابد أن يكون فيه من السيرة الذاتية قبسٌ. ليس بالضرورة بحذافيره، فما يهم من السيرة الذاتية هو ذلك القالب الفني المبتكر. حتى الخيال، هو- بالضرورة- استجابة شرطية للواقع ومؤسَّس على خبرة عالية مكتسبة. والأدب المميز ينبع من هموم شخصية لصيقة بفكر الأديب وبالإحساس بما يعاني الآخَر، سواء بالتجربة الفعلية أو بالمشاركة الوجدانية.
لكني لا أجيب عادة على السؤال المتكرر والمُلحُّ الذي يلي هذا السؤال وهو: ما هو الجانب الخاص بسيرتك الذاتية في هذا العمل؟ أو في أي الصفحات تتمثل أنت بسيرتك الذاتية الفعلية؟
 يمكن العودة ومراجعة المقالات العديدة المنشورة عن سيرتي الذاتية التي أكتب فيها منذ سنوات وبوضوح. أما أدبي المكتوب فلا تفصيلات فرعية لي عليه وإلا لكنتُ كتبت شيئا آخر.
ما أكتبه في أعمالي الأدبية هو بالضبط ما أريد إيصاله للقارئ، وليس التعليق اللاحق مني أو التحليل والتفسير لما كتبت! لا أرى أن هذه مهمة الشاعر.


بيت النخيل؟ مدن بلا نخيل؟ الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء، نجد أن النخيل والجمال هي الملامح الخاصة للبيئات العربية، هل تشعر بالنوستالچيا وأنت تضمِّن هذه الملامح بين عناوين كتبك؟
من الطبيعي أن أشعر بالحنين إلى بيئتي التي خرجتُ منها وهذا وضع صحي. لكن يجب أن يكون المردود أعلى في استعمالي لأشياء أو ملامح من البيئة العربية؛ فالأدب استثمار فني ويجب أن يكون هناك عائد من هذا المستثمَر وإلا تآكل أصل رأس المال الأدبي.
لا أحب الاستخدام المجاني أو (الإكزوتيك) لملامح البيئة العربية، لستُ في معرض كتابة سياحية أو ”إثارية“- من إثارة.
البيئة التي نشأتُ فيها بيئة اجتماعية غنية لأقصى الحدود، صحيح أن البساط الاقتصادي الداعم لها قد سُحب من زمن، لكن هذا الاجتماعي من القوة والغنى بحيث إنه صمد وسيصمد لأجل طويل.
ليس هناك أي عيب في الحنين الفعَّال. أما حنين الهم والبكاء على الأطلال فليس لهما عندي محل من الإبداع.


الأدباء العرب المقيمون بالدول الغربية رسموا صورًا مبهمة عن الحياة الغربية تركَّزت معظمها على العلاقة بالجنس الآخر؟ ما رأيك؟
هنا تَجَنٍّ كبير في هذا ”الإجماع“ لكل الكتاب العرب في الغرب. أدافع عن الغالبية بكل ما أوتيتُ من قوة، فالكثير من الأسماء الجيدة وظَّفت كتابتها في السياق الإبداعي الأدبي الحر، فأفادت واستفادت. ما حصل هو التالي: وهنا نقطتان أساسيتان للتوضيح والفصل.
إن المجتمعات الأوروبية ليس لديها هذه المحرمات الموجودة لدينا في الكتابة. وإننا ما زلنا غير متعوِّدين على الكتابة في هذه المجالات ”عربيا“. لأننا أيضًا لم نتعوَّد في عصرنا الحديث على القراءة في هذه الموضوعات.
الجانب الجنسي هو في الحقيقة الجانب الأثير، فهذا الجانب لبعض ممن ليس لديهم ثقافة ومعرفة بالغرب يُعتبر أسهل طرق المفاوضات البشرية. والتناول السطحي للجنس والفحولة العربية في الغرب أمور ما زالت مُسيطرة على عقول القليل من الكتَّاب ونبراسهم العتيد لتفوقنا الأكيد لبطولات الغازين الفاتحين ومن تبعهم من القراء الغاوين. وهو أمر بائس يضحك عليه الغرب ليلاً نهارًا وأنا أيضا.


النقاد الغربيون يقولون إن أدب المهاجرين ببلادهم نادرًا ما يعكس أو يوضح ثقافة الجذور لهؤلاء، لذا يظل الأدب الشرقي والثقافة الشرقية مشوهة بالنسبة إليهم ولم تخرج عن إطار شَهرَزَاد وشهريار.. ما رأيك؟
من يقول هذا القول لم يقرأ كل الأدب الموجود. أنا أعاني في بعض الأحيان من أنني أكتب كتابات لا توجد بها هذه ”التحابيش“ الشرقية والتوابل ”الشهرزادية“ والوصفة النسوية المتحذلقة. البعض هنا- وهم الأبعد عن الأدب- قد لا يتذوَّقون هذا الأمر؛ فإن كتبتُ عن موظفة تعاني الأمرَّيْن في عملها فيقولون: معلوم! فزوجُها هو السبب، أقول ولكن زوجها متوفى. يقولون إذًا هو رئيسها في العمل، هو ذاك الذكر المجرم المتسلِّط، أقول إن رئيسها سيدة.. وهكذا (هذا لا يعني أنني أدافع عن تجاوزات لتناقضات صارخة وهيمنة ذكورية لا أنفيها)، لكني أكره مسألة تلوين الأدب حسب المزاج ووضعه في أدراج: هذا شرقي وهذا غربي، هذا صيني وهذا إفريقي، وتلك هي سمات كل أدب!
طبعًا يطلع علينا البعض هنا بين يوم وليلة بكتاب يسمِّيه ما يشاء ويضع فيه هذا الخلطة السحرية التي توجد فيها كل المحسنات الشرقية المثيرة والطباق الشهرياري العجيب ليُخرجوا لنا كتابات تدوِّي لكنها لا تُعمِّر.


وبرأيك ما مدى الإقبال على الأدب الشرقي في الغرب؟
الإقبال على الأدب الشرقي في الغرب في شقين كما ذكرت في جواب سابق. إقبال يبحث عن الجديد والمغاير والمكمل ويستمتع به ويؤيده ويستفيد منه، وهذا مقبول ومطلوب وراسخ. وإقبال آخر على طريقة ”الجمهور عايز كده“ يرغب في ”بهارات“ الخلطة الشرقية السياحية المؤقتة، يستهلكها الشخص كمن يستهلك مشروبا يستمتع به، وهذا الإقبال الأخير يكسب في بعض الأحيان رنينا أعلى رغم صدأ المعدن ورداءته.
النقاد الواعون- رغم ندرتهم- يُدافعون عن الأدب الجاد، وما زالت الطريق طويلة وشاقة لكن العمل فيها مُجْدٍ وذو أثر ونتيجة. أتعشم ذلك، وأنا متفائل حتى تاريخ إجرائي لهذا الحوار.


العرب بالنمسا تواجدهم أقل ممَّا هو ببقية الدول الغربية؟ هل هناك أسماء عربية وإفريقية نجحت في وضع بصمتها فى المشهد الثقافي النمساوي؟
النمسا ظلت لعدد كبير من العرب القادمين مجرد محطة للانطلاق إلى مكان آخر. الكثير من المتواجدين هنا ما زالوا يتحدثون فقط لغتهم الأم، أو إلى جانب لغاتهم الأم: اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ورغم العمر الطويل في هذه البلاد، فالبعض ما زال مُصرًّا على أنه في حالة ”ترانزيت“؛ لذا لم يأبهوا باللغة الألمانية ولم يعطوها أدني اهتمام، وهم بالتالي بعيدون عن الحياة، ناهيك عن البعد عن الصورة الثقافية المتوافرة الفياضة من معارض ومسارح أو سينما أو قراءات أو فنون تشكيلية... إلخ، هم بالأحرى بعيدون عن جيرانهم مستغربون للحي الذي فيه يعيشون, وبالتالي لم يكسروا حدة وحدود الاغتراب ليكونوا جزءًا من نسيج هذا المجتمع.
عليك أن تنزل للساحة بأدواتها؛ فلا يصح للخباز أن يخبز بمنشار ولا للمعلم أن يعلم بشاكوش.
لكني أعول كثيرًا على الجيل الثاني والثالث؛ فقد بدأت بوادر جميلة في هذا الاتجاه، أتمنى أن يأخذوا فرصة هذا ”الفيض الثقافي“ بقوة، ليكون لهم تأثيرهم المفيد لمجتمعهم الذي ولدوا فيه، وليكون في بذرتهم التفهم الأرحب والمحبة للجذور دون التنطع بوطنية خائبة يتوارثها الأبناء والأحفاد دون أي أمارة.


الأدب العربي يميل إلى الحشو والوصف، هكذا يعلّق النقاد الغربيون! هل ترى أن نحتفظ بتلك ”كخصوصية“ أم أن الإحتكاك بالثقافات وتفاعلها سيغيّر منه ويفك طوق العزلة عن الأدب العربي؟
ظلت كثير من الروايات الأحدث نسبيا وكثير من الشعر الحديث وحتى منتصف القرن الماضي متأثرًا بكثير من الحشو والوصف غير المناسبين للزمن، ولم يكن للأدب أن يُحدث قطيعة مباشرة مع تاريخه البعيد أو القريب، وهذا ليس في مصلحة أي أدب في الدنيا. فالأمور تؤخذ بالتدريج والتجريب.
كثير من الأدب العربي الحديث يتمتع الآن بخصائص فريدة وجميلة فهو قد تخلَّص تدريجيًّا من كثير من الحشو والتكرار والوصف. لكن مشكلة الترجمات إلى اللغات الغربية هي الاختيار الصحيح والمناسب. ليس كل ما يلمع عربيًّا قابل للترجمة والحفاظ على هذه اللمعة. الترجمة تحتاج إلى حد ما إلى خيانة حتى تصل في اللغة الجديدة كما أراد صاحبها في فكرتها الأصلية. يرد البعض بقضية أمانة الترجمة وضرورتها وهو جدال طويل لسنا الآن بصدده.
أنا أميل إلى تحرير العمل عند الترجمة من كثير من الشوائب بموافقة الأديب ومراجعته، فبعض السطور الوصفية التي ربما تمثل قوة الرواية عربيا تنقلب في ترجمتها لتكون هي بالضبط مناطق الضعف. لا عيب من وجود محرر أدبي يخلّص العمل من شوائبه التي ستعيق القارئ الأجنبي دون المبالغة ودون ضياع أصل العمل ودون التشويش بتغيير من النص، بل بتوصيله.
وللإجابة على المقطع التالي من سؤالك؛ فالأدب العربي ليس في عزلة، والاحتكاك كما أراه يعلّم بالفكرة وبالتقنية وليس بالتقليد والاتباع. والأدب العربي- للأسف- لا يشارك في نهضة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية ولا يشارك بالمساهمة في ترجمة أعمالنا إلى اللغات الأجنبية، والإحصائيات تقول إن الفرد العربي يقرأ حوالي 6 دقائق في المتوسط سنويا، وكل 300 فرد يقرءون كتابًا واحدا كل عام، ولا تتجاوز نسبة القراءة في العالم العربي 1.1 في المائة من النسبة عالميا. وإنه قبل عشر سنوات- وفقا لإحصائيات اليونسكو- أنفق العرب 0.14% من الدخل القومي على البحث العلمي، بينما أنفقت كوبا عشرة أضعاف وإسرائيل ثمانية عشرة ضعفا واليابان عشرين ضعفا. ولا تعليق!


تمسكك بأصولك السودانية يبرز في كل حواراتك رغم ميلادك ودراستك بمصر؟ هل هو رد فعل لعدم اندماج أو ذوبان في المجتمع المصري؟
هذا السؤال أيضًا فخ جديد أو سوء فهم. لقد عشتُ في مصر ربع قرن كامل دخلت فيها كُتَّاب الشيخ علي في عين شمس ثم مدرسة الإمام محمد عبده الابتدائية ثم النهضة الإعدادية ثم ابن خلدون الثانوية ثم جامعة عين شمس- كل ذلك في القاهرة. وأصول جداتي لأمي من مدينة دمياط على البحر المتوسط وكلهن مولودات في مصر، جدتي لأمي مولودة في دمياط، جدتي وأمي مولودتان في بورسعيد ونحن مولودون في القاهرة. لهجتي الدارجة هي القاهرية المصرية وما زالت حتى الآن. عدد أصدقائي المصريين هو أكثر من أي دولة أخرى، بل لا أبالغ لو قلت بأن هذا العدد ربما يفوق بقية الأصدقاء العرب كلهم مجتمعين.
تمسكي ليس بأصول اسم الدولة: مصر أو السودان أو ”بلدستان“، وأنا بالمناسبة شخص يكره الأعلام (وليس الإعلام) بامتياز! تمسكي الحقيقي هو بأصول المكان وبالأهل أينما أتوا، وأنا مكاني كان القاهرة وعين شمس تحديدا التي كانت في ذاك الحين مثل حي من السودان. والدي كان يتكلم اللهجة السودانية ووالدتي تتكلم القاهرية الدراجة بامتياز. محبتي كانت وما زالت لهذا المكان الكبير الممتد من جنوب السودان حتى مصب النيل في البحر. لا أحب التقسيمات ولن أفعل، ولعل البعض- سواء في السودان أو في مصر- يحبّذون هذه الحدود ويؤكدون على هذه الفوارق.
كما قلت من قبل فيما يتعلق باللغة: إن تعلم لغة جديدة لا يعني إزاحة أو إلغاء اللغة القديمة، والأمر بالنسبة للمكان والانتماء والمحبة أكبر كثيرا من هذه الحدود التي صنعناها، فالتاريخ الاجتماعي الحقيقي أقوى من الجغرافيا المعلبة، والجغرافيا الطبيعة التي خلقها الله أقوى من التواريخ المزيفة.
سأضيف إلى ذلك محبتي وانتمائي العميق لڤيينا مدينتي الأثيرة التي أعيش فيها منذ ربع قرن وما زلت.


ما كمية توزيع أعمالك العربية مقارنة باللغات الثانية؟
للأسف لا أعلم تحديدا الكثير عن توزيع أعمالي بالعربية، إلا من ناشر وحيد في مصر هو إلهامي لطفي بولس صاحب دار الحضارة للنشر والتوزيع، أما الآخَرون- ممثلين في ثلاث دور نشر أخرى- فلا علم لديَّ بما يبيعون أو يوزعون والتواصل للأسف شبه منعدم وإن وجِد، فهو لابد وأن يكون بمبادرة من مؤلف الكتاب.
روايتي الأخيرة ”بيت النخيل“ المنشورة عام 2006 كُتِب عنها عربيا من المحيط إلى الخليج حتى الآن مرتين، ولم يكن المكتوب نقدًا من أي ناقد. ”بيت النخيل“ المترجمة للألمانية والمنشورة هذا العام قبل ستة شهور في برلين كُتِب عنها سبع مرات حتى الآن وعرضت كمادة توثيقية لمدة سبع عشرة دقيقة في التلفزيون النمساوي، وأراها في واجهات أهم المكتبات في ڤيينا ودعيت من أجلها حتى الآن لأكثر من عشر قراءات في الداخل والخارج.
الناشر في أوروبا يعطيني فقط عشر نسخ من كتابي المنشور. يوزع هو بنفسه ما يقرب من مائة نسخة للصحافة والإعلام، وهناك عقود بيننا تحدد كل كبيرة وصغيرة. وهو ملتزم بطباعة الكتاب مجددا بعد نفاده. وهذا ما يحدث حاليا مع ”مدن بلا نخيل“ بالألمانية. وهو مهتم بتجهيز ندوات لي لترويج الكتاب مدفوعة التكلفة من سفر وإقامة ومقابل للقراءة من المؤسسات المهتمَّة. توجد أيضًا استثناءات سلبية من ناشرين آخرين.
التوزيع لكتبي في اللغة الألمانية أو لكثير من الترجمات في اللغات الأوروبية هو توزيع أفضل؛ بمعني أن مشتري الكتاب في الغالب يقرؤه، أما الكتاب الهدية فليس من المؤكد قراءته.
يصر بعض ”المقتنين جامعي الكتب“ العرب على الحصول على نسخ من كتابي كهدية، كأنهم يعتقدون أنهم يقومون بعمل خير لي بالتخلص من الكتاب. كتبي هذه أراها بعد سنوات في مكتباتهم العتيدة ميتة لا ينفضون حتى الغبار عنها يومًا محبَّة لي.
قرائي بالعربية هم دائرة محدودة. قرائي في اللغة الأوروبية في تزايد مستمر، وفي لغات متعددة، هذا الانتشار البطيء يُفرحني. يسعدني هذا التواصل مع شاعر من فنزويلا وروائي من الهند وفنانة من رومانيا وممثلة من مقدونيا وقاص من نيجيريا وهكذا.


هل تتابع المشهد الثقافي العربي ككل؟ وبأيِّ وسيلة؟ وما رأيك به في السنوات الأخيرة؟
بالتأكيد أتابع معظم ما يتاح لي من مشاهد الثقافة العربية. أولاً عبر البريد فيما يتعلق بالمجلات والدوريات والكتب، تصلني من بعض الدول مثل تونس والمغرب ولبنان ومصر وعُمان، وأخرى تصلني من أوروبا وأميركا. أما كتب الأصدقاء من الأدباء فنتبادلها بيننا بالبريد. أيضًا في زياراتي لمكتبات عربية أو معارض، إلى جانب أن معظم الجرائد العربية متوافر في ڤيينا. وأساسًا الإنترنت الذي أصبح يمثل منبعًا مهمًّا لي لمواكبة أكثر ما يحدث ويقربني من الصورة؛ فهو مفتوح 24 ساعة على العالم وقتما أريد. وأخيرًا التليفزيون ببرامجه العربية السمحة والسمجة التي لابد من متابعتها أيضا لفهم ما لا نعايشه عن قرب. وأخيرا التليفون بالتواصل مع الصديقات والأصدقاء عبر العالم. أما القنوات باللغة الألمانية تحديدا فهي تقدم بانتظام برامج توثيقية جادة عن عالمنا العربي الذي لا نعرفه.
أما عن رأيي في السنوات الأخيرة أدبيا في عالمنا العربي؛ فما زلنا في تذبذب ثقافي يثير مشكلة الهوية، وفي تهرُّؤ سياسي يُعيد برمجة الأيديولوچيات، وما زلنا في غير استقرار اقتصادي واجتماعي يسببان خطرًا ”أمانيًّا“ وليس أمنيا. أوضاع لا تُطمئن لبروز تطور معرفي أو ثقافي عربي في القريب. فما زال الأديب في المجتمعات العربية كمن يؤدي مهمةً كماليَّة لا قيمة لها. ومع ذلك قد يتعرض للمساءلة والتوقيف بسبب الرأي.
اعتقادي الأكيد أن من لا يقرأ لن يحترم كاتبًا ولن يهتم بأمر قارئ. من لا يقرأ هو العالة على المجتمع، فما بالك لو أنه هو من يتحكَّم في سير الأمور!


ڤيينا، 17-8-2007