العين

الحدّ من الحدود

(نشرت في مجلة أمكنة، الإسكندرية، 2006)

حين سمعت للمرة الأولى كلمة "حدود" كنت تقريبًا في الرابعة. تحديدًا كلمتين: "سلاح الحدود" أو ثلاثًا: "سلاح حرس الحدود". أدركت وقتها أن والدي يعمل في هذا السلاح. الكلمة كانت ذات رنين لي في هذه السنّ الصغيرة؛ فسلاح فهمتها بأن والدي يمتلك قوة ما، وحرس يعني أنه يحرس شيئًا أو مكانًا ما ذا أهمية. لكن بقيت كلمة حدود عصيّة على الفهم، فلم تتبيّن لي على نحو واضح أو في شكل ملموس. حاولت وقتها أن أتخيّل شكل هذه الحدود: أهي مبنىً ما أم موقع؟ لم أتوصل إلى توضيح مريح في سني الصغيرة تلك. لكن باعتبار أنني كنت أرى والدي دائمًا في زيّ عسكري أنيق، فقد اعتقدت أو تخيلت أن هذه الحدود لابد أن تكون شيئًا مهمًّا وأن على والدي المحافظة عليه.



حدود اليابس

لم أكن أدري أنني سوف أجتاز في عمري عشرات الحدود المرئية وغير المرئية التي سوف تغيّر بالضرورة منّي ومن نظرتي للعالم في كل مرة.

في السن نفسها تقريبًا؛ الرابعة أو الخامسة اجتزت أول حدّ لي خارج حدود مصر. كنا وقتها نقيم في بيتنا في العريش الذي ضاع بعد حرب 1967. فذات عصر عبرنا هذه الحدود بين العريش وغزة في سيارة. كان هناك توتر ظاهر على الوجوه قبل وأثناء عبور هذه الحدود. شعرت وقتها بخطر ما لم أدر ما هو على وجه التحديد. صرت أتأمل الطريق ونحن نجلس في الخلف في هذه السيارة المفتوحة من نهايتها، في هذا المنظر الذي يبدو دائمًا مختلفًا عن النظر للأمام، منظر يثير الحيرة حين تجري الأرض تحت مكان الجلوس بهذه الصورة وعلى العين أن تلاحق المناظر القريبة التي تبتعد وليس العكس بأن تقترب المناظر البعيدة ثم تختفي. تخيّلت بخيال الطفل أن لون الأرض سوف يتغيّر بمجرد أن نعبر هذه الحدود. عيناي اتسعتا لآخرها لتـُلِمَّ بهذا المنظر الواسع الذي سيتغير بالتأكيد بعد قليل: الأرض بعفارها ونبات أبو الشوك أو العاقول، والرعاة ببعيرهم أو غنمهم، والشريط الساحلي الحالم الطويل وزرقة البحر وشكل السماء. كنت أتشبث بأمي، أشم رائحة بنزين السيارة العسكرية والصهد وأرى العفار وأسمع هدير الموتور.

عبرنا الحدود

سألت أمي وقتها:" إحنا دلوقتي في غزة؟"
"أيوة!"
"يعني سبنا مصر خلاص؟"
"أيوة!"
"طب وحنرجع امتى؟"

دائمًا هو سؤال العودة بمجرد عبور أيّة حدود.

عبرنا الحدود الفاصـلة بين العريش وغـزة. الأرض لم تتغـيّر ولا السـماء ولا الشـريط السـاحلي ولا زُرقة البحـر ولا الرعاة ولا الحصى ولا الشجيرات والنخلات المتناثرة، ولا أبو الشوك. كل شيء ظل كما هو.
استرحت كثيرًا لهذا التغيير الذي لم يتغيّر ولم يؤلم.

حين نزلنا عند العائلةِ الفلسطينية التي بـيّـتنا لديها وجدت تغييرًا في اللهجة وفي الشكل البديع لملابس النساء المطرزة بتلك التطريزات الغزّاويّة الشهيرة التي يُجاهد البعض الآن في نسبتها إلى غـيرِهِن. كانوا رجالاً ونساء حميمين لأبعد الحدود. رحّبت بنا النساء نحن الصغار وبأمي ترحيبًا أهلاً وسهلاً. كنت في سن تسمح لي بالبقاء عند أمي أكثر من أبي. لذا أتذكر تلك الجلسة في الحوش الذي يشبه حوش بيتنا في العريش لكنه أجمل وأوسع، يقطنه عدد من العائلات أو الأقارب ربما؛ أتذكر شجيرات الزيتون بمرارة أوّل حبّة وضعتها في فمي وبرائحة الريحان التي كانت تعبق في هذا الحوش.

في اليوم التالي ذهب أبي بنا لنأكل الآيس كريم أو الجيلاتي في غزة، كان هذا أجمل وأطعم جيلاتي أكلته في حياتي. أدركت يومها أن جيلاتي القاهرة الذي كنت ابتلعه بلعاً سيأخذ منذ ذاك الوقت فصاعدًا مرتبة متدنية وحـدًّا جديدًا وأن جيلاتي غزة سيبقى طعمه عندي كألذ جيلاتي في العالم.

لم أخـْشَ طريق العودة إلى العريش واجتياز الحدود. كانت ذاكرتي في يومين قد امتلأت بألفة غامرة أنسَتني هذا التوتر. أحداث عادت إليّ لاهثة ولم أتخيل أن أستعيدها بعد أربعين عامًا بهذا الصفاء.

وعبرت أوّل الحدود مرتين!


حدود الماء

الحد الثاني الذي اجتزته حدث وأنا في العشرين من عمري في عام 1979. للمرة الأولى أستخدم جواز سفري السوداني الذي لم أدرِ قبلها لماذا كان والدي مُصِرًّاً على استخراج جوازات سفر لنا ونحن- أي بقية العائلة- لا نفكر في السفر بعيدًا. بهذا الجواز تمكنت من عبور وطني الأوّل إلى وطني "الأوّل"، من الشمال إلى الجنوب؛ لاجتياز حدود السد العالي والبقاء على النيل في باخرة تنقلنا لمشارف حدود وادي حلفا، لأحصل هناك على ختم مربع عليه هذه الجملة: [مراقبة الجوازات- ميناء وادي حلفا- 8 يوليو 1979- شوهد عند الدخول] مطبوع باللغتين العربية والإنجليزية.

على الباخرة سوف أستعيد ذاكرة الطفل القديمة. سأتأمّل النيل والضفتين وسأسأل عن الحدود الفاصلة أين تبدأ وأين تنتهي. سوف تميع حدود الحقائق في صحتها وكلٌّ يحدد الحدود بطريقته، وسيريحني هذا كثيرًا.

السماء فوقي لن تتغير وربما تسخر من هذا الإنسان الضئيل المغرور الذي يقسّم مساحات هذا الكوكب الصغير إلى أحجام أصغر!

لن يتغيّر شيء إلاّ في ابتعاد الضفتين أكثر وفي صفاء النيل وفي هدوء الناس. سيأتي النسيم هافـًّا شافـًًّا فتصير رحلة أولى لن تتكرر.

في السابع والعشرين من يوليو سأكون عائدًا من ذات الطريق من الجنوب إلى الشمال؛ إلى مصر، بأحداث ودهشة سـوف تتراكم معانيها مع الزمن. سأحصل عند الحدود على تأشيرة دخول سيُكتَب عليها: [إلى مصر فقط].

اللغة والملابس والرائحة هي أول ما يلفت انتباهي في تغيّر الأمكنة. في أم درمان والخرطوم ووَدْ مَدَني كنت أنصت أكثر ممّا أتكلم، كنت أتأمل الملابس وحركات الأجسام والإيماءات والإشارات وتركت لأنفي حاسته ليتعرف على المكان الجديد.

إنها الحاسة الطبيعية الوحيدة التي لا تتغيّر منذ المولد؛ يمكن للنظر أن يدرك المرئيات بأشكال متعددة، ويمكن للأذن أن تتعوّد على سماع الغريب، ويمكن للتذوق أن يعتاد ربما على ما يأنف، ويمكن لإحساس اللمس أن يتبدل بخبرات جديدة مكتسبة، لكني أحسّ- عندي بشكل شخصي حتى لا أعمِّم- أن حاسة الشم هي الأكثر أصالة في حواسي كلها؛ بها يمكنني أن أحدد بوصلة الشعور الدفين لديّ بشكل أدق.


حدود الفضاء

الحد الثالث الذي اجتزته حدث وأنا في الثالث والعشرين من عمري. المرة الأولى في طائرة؛ خروجًا من القاهرة نحو العراق، في [الحادي عشر من نوفمبر 1982] نزلت في مطار الكويت وسط معاملات متوترة نزقة مثل كل المعاملات المتوترة النزقة في المطارات العربية. أدخلونا في سيارة ميكروباص لتعبر بنا حدود ’صفوان‘ دخولاً إلى الأراضي العراقية. وقتها سمح لي سائق السيارة أن أجلس وحدي إلى جواره باعتباره مكانًا مميزًا، عرفت فيما بعد أنني أصبحت مسئولاً صغيرًا له في ملء أوراق الدخول والمرور وحمل جوازات سفر كل هؤلاء القابعين في الخلف. كانوا من عمال التراحيل الأشـقياء في أرض الله، وكنت أنا الخـريج الحديث من الجامعة الذي لم يجد له عملاً مناسـبًا في أرض المولد والذي يحاول أن يعبر حدود اليأس عَـبْرَ أملٍ بعملٍ خارج حدود أخرى.

جلسنا في السيارة داخل أرض الكويت كالمعتقلين. لم يكن مسموحًا لنا بالخروج من السيارة على الإطلاق. السائق سَـمْكَرَ علينا السيارة بالمفاتيح منعًا لنزولنا وتسرُّبنا في هذه البقعة من الأرض؛ فهي أرض عبور لا أرض بقاء بناء على التعليمات والتحذيرات. لكني أقنعت السائق مرة بالوقوف أمام سوبر ماركت لرغبتي في شراء شيءٍ للأكل والشرب. سمح لنا بعد أن اعتبرني مسئولاً معه عمّن معنا في السيارة.

سارت بي السيارة من صفوان حتى أربـيل، عبورًا بطول العراق كاملاً، أكثر من ثمانمائة كيلو متر على وجه التقريب، في رحلة مضنية نمت فيها من شدة الإرهاق. شعرت بأنني على أرض أخرى حين شممت رائحة تبغ رديء منبعثـة من دخان المدخنين في الخلف. رائحة غريبة على أنفي. أتذكر الآن أنني أفقت مجددًا على روائح أغرب: كنت قبل شمّي هذه الرائحة بقليل قد قرأت يافطة كتب عليها اسم مدينة كركوك. كانت روائح النفط والغاز التي لن أنساها ممتزجة بروائح جملة من الأدخنة الغريبة على حدود أنفي.

الحد الرابع كان أثناء مغادرتي العراق من جهة الشمال (مغامرة العراق كانت مغامرة بحق وكانت خَطِرَة وتحتاج وحدها لكتاب مستقل)؛ فبعد سـتة أشهر تقريبًا تـنفسـت الصُّعَداء بالخروج من العراق. كنا قد حصلنا في الموصل على تأشيرة دخول إلى تركيا. اتجهت نحو ’زاخو‘ صحبة محمد عبد الرحمن صديق دراستي. بقينا هناك عند حدود زاخو لدى بعض أصدقاء الدراسة من المصريين والسودانيين الذين يعملون هناك، كانوا يسـكنون فيما يسمونه بـ ’كارافانات‘ وهي عبارة عن سيارات نقل تحوَّل باطنها إلى مساكن للنوم.

بـيّـتـْنا ليلة في فندق متواضع بالقرب منهم. في اليوم التالي ذهبنا إلى كارفان الأصدقاء واسترحنا فيه لأن الإجراءات ستطول، حتى نادى علينا أحدهم بأن نسرع فالأوتوبيس سيغادر والسائق يسب ويلعن لنقص راكبين. ودَّعنا الأصدقاء على عجل وهرعنا إلى الأوتوبيس.

عند الحدود ركب الضابط العراقي الذي لم يجد معنا تصريحاً بالمغادرة. أنزلنا من السيارة وسط غضب السائق على هذا التعطيل، بدَوْتُ وقتها مثل إسماعيل ياسين في أحد أفلامه. لم ينتظر السائق بالطبع بل عبر الحدود دوننا. قال إنه سينتظر عند الجانب الآخر. قفزنا من الأوتوبيس في منطقة ممنوع النزول فيها وسط عسكر مدججين بالأسلحة. عدنا ركضًا على الأقدام إلى قسم الجوازات ولولا الأصدقاء لكنا في أوحل حال.

حصلنا على أوراق أو أختام الخروج. لكن لم يسمح لنا ضابط الحدود العراقي بالعبور إلا بعد إظهار أهميته، رغم أنه هو الذي أنزلنا. بدا كأنه نسينا في هذه الدقائق. وحين أفرج عنا بعد لأي ركضنا حتى صرخ فينا حارس آخر عند الضفة الأخرى بالوقوف رافعاً في وجهينا سلاحه. كان الحارس أو الضابط التركي الذي أظهر لنا بدوره مدى أهميته، وقد أشار له زميله العراقي بما معناه أن يسمح لنا بالعبور.

عبرت أول حدود دولة في حياتي على الأقدام.

دخلنا الأراضي التركية وتنفسنا الصعداء لرؤية الأوتوبيس والسائق. لأن حقائبنا كانت ما تزال به. ورغم أننا كنا قد حصلنا على فيزا للدخول إلى تركيا من قبل في الموصل. لم يسمحوا لنا بختم الدخول إلا بعد دفع الرسوم مرة ثانية ومُضَاعَفَة. انهال الضابط على الركاب بـ"قايش" لحفظ النظام بطريقة عثمانية فظة. دفَعَنا قبل الضرب بقليل، ثم دفعَنا من جديد لدخول دورة المياه التي عند الحدود.


الحد الخامس كان أغرب الحدود: حين دخلت إلى النمسا، فإجراءات الدخول (أتحدث هنا عن عام 1984، الآن الأمور تغيّرت) كانت من السهولة التي جعلتني أرتاب في الأمر. سألني ضابط الجوازات في مطار فيينّا سؤالاً أو اثنين لا أتذكرهما ثم ختم الجواز للدخول. مررت من الجوازات ومشيت في دهليز طويل ثم حملت حقيبتي من سير الحقائب وسرت. لكني حين وجدت الطريق للباب إلى خارج المطار مفتوحًا دون ضباط جمارك، ارتبت وشككت. وقفت قبل باب الخروج، لا أحد أمامي ولا خلفي. لم أود أن أتحرك خطوة أخرى أو أتجاوز الحد بهذه السهولة. اعتقدت أن في الأمر فخـًّا ما. انتظرت حتى ظهر ضابط وحدثني بالانجليزية إن كان معي ما يستحق دفع الجمرك. ثم كشف على حقيبتي بالكشاف المرئي.
غادرت المطار خارجًا من دفء إجراءات الحدود إلى قرسة برد لن أنساها.


الحد التالي كان عند سفري للمرة الأولى من فيينّا إلى بودابست وهذا لم يكن مزعجًا. لكن منذ ذاك اليـوم لم أرَ بودابست. وربما السبب يعود إلى حكاية "حدود" لاحقة حدثت بعدها بفـترة قصيرة، سأسـردها الآن.

سافرنا أخي وأنا وزوجتانا النمساويتان لمصر للمرة الأولى على الخطوط المجرية التي تبقى في ترانزيت لساعات طويلة في مطار بودابست. فكرنا أن نقوم في هذه الفسحة من الوقت بزيارة العاصمة ونقضي فيها هذه الساعات الطويلة بدلاً من البقاء داخل المطار. حصلنا أخي وأنا على الفيزا من القنصلية المجرية في فيينّا. لكن ما إن هبطنا حتى استلمَنا ضباط الجوازات. سمحا لزوجتينا بالخروج فهما تحملان جوازين نمساويين لا غبار عليهما. أما جوازي وجواز أخي فكان الارتياب بشأنِهما مما يثير الآن ضحكًا لكن وقتها أثار استياءنا ويأسنا.

حقائق أولية في طبيعة جوازيْ سفرنا أخي وأنا:
ربما من الدول النادرة في العالم التي لديها جوازات سفر مختلفة الأشكال والأحجام بل والألوان هو السودان. جواز سفري أغمق زرقة من جواز أخي وجواز سفر أخي أطول من جواز سفري.

لم يصدق الضابط أولاً أننا أخَوَان- كما ذكرنا وليتـنا ما تفوّهنا بهذه الحقيقة- ولا أن الجوازين من دولة واحدة لاسيما أنهما صادران في فترة زمنية قريبة نسبياً وليس بينهما ربع أو نصف قرن مثلاً.

أراد الضباط أن يكشفوا أي الجوازين هو المزوَّر. تم استجوابنا في غرفتين منفصلتين دون عنف أو سوء تصرف، بل بكل روية وصبر وملل.
كان اسمي مكتوباً في الجواز هكذا: Tarig على طريقة النطق السودانية. كنت قد أعدت تصحيح الاسم في سفارتنا في بون بألمانيا- حيث لم تكن لنا سفارة أو قنصلية سودانية في النمسا- إلى: Tarek مع إشارة من المسئول عن هذا التغيير في صفحة داخلية مع ختم السفارة.

أثار هذا التغيير في الاسم ارتياب الضباط، فأوراقي الأخرى التي كانت بحوزتي والتي طلبوها إمعاناً في التأكد من هويتي كانت كلها باسم Tarek. ظنوا أنهم أمام مغفليْن لا يجيدان فن التزوير والتخفّي أو أننا وقعنا في شر أعمالنا.

وبما أننا ذكرنا أننا أخوان فقد جاءت المصيبة التالية على عجل: ففي جواز سفر أخي اختصر ناسخ الجواز الاسم الثالث: محمد في اللاتينية إلى: Mohed، مع الذكر في صفحة داخلية بالانجليزية أن Mohed هذه تعني Mohamed. بينما الاسم مكتوب عندي كاملاً خلافاً لما أشرت إليه. إضافة إلى تصحيح آخر في جوازه بالكشط بموسي. لم يصدق الضباط موضوع هذه التصحيحات العجيبة وأن هناك سفارة في الدنيا يمكنها أن تقوم بهذا العمل.
تبادل الضباط علينا في الاستجوابات المملة، بل كانوا يكلموننا في بعض الأحيان باللغة المجرية في محاكمة حدودية كافكاوية بائسة.
والحكاية فيها حديث أطول لا أريد أن أطيل فيه.
اكتشـفنا بعد عودتـنا إلى فيينّا. أنه في ذاك اليوم كان يُعقد مؤتـمر ما لإسرائيل في العاصمة بودابست. فأدركنا سـبب الارتياب وبؤسه.


ظللت لسنوات طويلة حتى عام 1995 أعاني في كل سفر خارج حدود النمسا. في كل مرة كنت أغادر فيها النمسا إلى أي دولة أوروبية- كنت أضطر للذهاب إلى سفارة الدولة التي سأسافر إليها مشفوعاً بجواز سـفر زوجتي النمساوي "المحترم عابر الحدود" فيتم احترامي مؤقـتًا معها لهذه السفرة بفيزا لأيام محددة.

ومن المؤسف أنني أيضًا في كل مرة كنت أعود فيها إلى مصر بجواز سفري العربي غير المحترم هذا، كانت زوجتي تمر بجواز سفرها الأجنبي "المحترم عابر الحدود" وأبقى أنا منتظرًا. لا شفاعة لي بمولد على أرض هذا البلد، ولا قيمة للهجتي المصرية التي تربيت عليها. بل ينبسط ضابط الجوازات لأجنبية ولأجنبي حتى لمجرد سماعه "أخلاً وسخلا" منه أو منها. كنت في كل مرة أعود فيها إلى مصر بجواز سفري العربي غير المحترم أبقى منبوذًا مُنتظِرًا إجراءاتٍ لا أدري ما هي، بينما زوجتي في الناحية الأخرى متوترة لا تدري ماذا يحدث، وضابط الجوازات يتبختر داخلاً خارجاً متمهلاً حاملاً كوب الشاي, ثم يُنادى على اسمي بصوت عالٍ كأننا في محكمة: (طارق الطيب محمد أحمد)، ليُفرج عني بعدها لأصير داخل الحدود الحميمة التي أعرفها والتي تتأبى عليّ في كل عودة.

الآن بجواز سفري النمساوي "المحترم عابر الحدود" أصبح دخولي أسهل وإن كان السؤال دائما يعود يتكرر عن الأصل، فطارق الطيب هذا ليس اسمًا نمساويًّا وهذه السحنة "الطيبة" أيضًا.


كانت هذه مقدمة لبعض الحدود الجغرافية التي تعاملت مع جسدي العابر على الأرض حتى أوائل القرن الحادي والعشرين. أما عن الحدود الأخرى فحدِّث ولا حرج ولن يتسع المجال هنا لذكرها كلها ولا لتفاصيلها.

حدود وهمية

المرة الأولى التي واجهتني فيها عقبة أول حدود وهمية كانت في العام 1981، أي بعد تخرجي من جامعة عين شمس بشهور قليلة. تحوّلتُ أنا بقدرة قادر بناءً على قرارات مجحفة إلى مواطن سوداني غريب عن مصر لا حق له في استكمال دراسته للماجستير بالجامعة رغم قبولي مسبقًا. كان عليّ أن أدفع مصاريف باهظة لا قدرة لي عليها. في لحظة فرقت قوانـين جامعية مسـتحدَثـة بين المصري وغير المصري. لم يعد هناك تصنيف الوافدين السودانيين والفلسطينيين أو الوافدين العرب أو الوافدين الأجانب أو حتى الوافدين المقيمين من بين هؤلاء. صار الحدّ واضحاً دون تدريج: مصري وغير مصري. ورفضت الجامعة الأمريكية في العام نفسه أن أدفع الرسوم المعتادة على دراساتي الإضافية التي كنت مهمومًا بها في اللغة الانجليزية والكمبيوتر. فانقطعت عن الجامعتين وعملت لفترة قصيرة في مكتب للمراجعة بمرتب ثلاثين جنيها في الشهر بحجّة أنني تحت التدريب، ولم يكن هذا المرتب يكفي حتى قيمة المواصلات.

خرجت من مصر.


حد اللون

بعد العبور إلى أوروبا والدخول في قلبها اكتشفت نوعًا مستجدًّا من الحدود لم أنتبه له جيدًا من قبل في مصر، رغم وجوده: حدود اللون وأقصد لون البشرة. فرغم أنني في مصر لم أرَ - ما يتناسب عدديًّا من أصحاب البشرة الغامقة المغضوب عليها- سواء في السياسيين أو أساتذة الجامعات أو في النجوم من الممثلين والممثلات أو المطربين والمطربات أو حتى في المذيعين والمذيعات ومقدمي برامج (الرياضة لها استثناءاتها دائمًا لأن مجال المبارزة المفتوح الصريح في الغالب سيفضح الأمر).

بل في السنوات الأخيرة أثناء وجودي هنا في فيينّا بدأت ألاحظ في فضائياتنا العربية تزايد وجود المذيعات الشقراوت ’صباغةً وليس أصلاً‘. بل زادت إعلانات تفتيح بشرة الوجه. ومن الطريف في بعض المشاهد أن أرى مذيعة ما قد فتَّحَتْ بشرتها بطلاء مكثف لكنها نسيت تفتيح بشرة يدها، فأرى يدها في لون ووجهها في لون آخر.

 يبدو لي أن الإرث الاستعماري العثماني كذا الفرنسي والبريطاني قد ترك آثارًا مشوهة في التفكير النفسي الاجتماعي الذي يتعلق بموضوع وجاهة ووضاعة الأصل، بحيث أصبح كثيرون يتفاخرون بنسبهم الانجليزي والفرنسي بل والأكثر بالنسب أو الأصل العثماني. بل يوصم الكثيرون من الأصول النوبية بصفة خاصة ثم الصعيدية بأنهم أقل قيمة فكلمة نوبي أو صعيدي وفي أحيان قليلة بدوي أو فلاح قد أصبحت سُـبّة تعني التخلف والوضاعة.

لم تكن حدود اللون في النمسا معوقة في السنوات الأولى التي وصلت فيها للنمسا. فأعدادنا كانت جِدّ قليلة والفضول حولنا كان أكبر، لكني تعجبت حين رأيت أن الصورة قد انقلبت في هذا المكان لتضع التركي بالذات ثم اليوغسلافي في آخر قائمة الأجانب. اهتزت الصورة في السنوات الأخيرة بعد اجتياح أعداد كبيرة من طالبي اللجوء الأفارقة للبلاد وبعد مطالبة "حزب التحرُّر" بتخليص البلاد من مفاسد الأجانب وتجار المخدرات من الأفارقة!


حد المناخ

حد لم أكن أتخيل أن له وطأة لن تمحي أبد الدهـر، وأكرر دومًا أنني لم أصطدم بصـدمة ثقافية في أوروبا بل بصدمتين: الأولى مناخية من شدة البرد في يناير والثانية لغوية.


حد اللغة

مع الألمانية وقفت على حد من حدود اللغة؛ لغة ليس لي بها سابق معرفة. لم يعد للساني يوم وصولي إلى فيينّا أية قيمة. التواصل كلاميًا انقطع فجأة. وجب عليَّ أن أكون منصتًا لا متحدِّثًّا. وأن أهتم بالإشارة والإيماء. صارت عينايَ تسمعان لي.

موضوع اللغة أرقني في البداية طويلاً، فصمَّمتُ على أن أجتاز هذا الحد، وقد كان. فتح لي "جواز السفر اللغوي" أفاقًا وحدودًا لم أكن أتوقعها.

حدود الانتقال بين اللغتين العربية والألمانية كان مربكًا لي في البدايات. ولوقت طويل كنت أشعر بصعوبة اجتياز هذا الحاجز. الآن مع الوقت وبعد هذا العمر الطويل في هذه المدينة أصبح هذا الحاجز العالي أقصر وأصبحت حدود الطقس أكثر تقبلاً وتوقعًا.


حدود الهوية

عبرت حدودًا كثيرة ورأيت حدودًا أكثر، بعضها كان ضروريًّا لتكويني وبعضها كان تعسفيًّا غبـيًّا كسبت منه خبرة الاسـتـنكار والرفض وأحيانًا قدرة التغيير. لكنني كلما وجدت حدًّا في داخلي يمنعني من التواصل مع من أحبّ- أو حدًّا وهميًّا بأنني أفضَل- كسرت هذا الحد الشوفيني العنصري فورًا. وكلما شعرت بحدٍّ يمنعني من أن أحبَّ بقعة أكبر على هذا الكوكب الصغير كسرت هذا الحد على الفور.

إن سُئلت في النهاية في حالة إرساء حدود هويّة جنسـية لي بأن أكون سودانيًّا أو مصريًّا أو نمساويًّا، فسأفشل بالتأكيد في إيجاد حدود بينها عندي، بسبب تجاوزي لهذه الأنماط الحدودية الشوفينية العنصرية. فأنا مجرد إنسان مولود لأب سوداني، عاش هذا الأب ثلاثة أرباع عمره في مصر وخدم فيها. إنسان مولود من أم ذات أصول مصرية سودانية ونشأ على أرض مصرية وعاش فيها لربع قرن والآن يقترب من ربع قرن آخر في فيينّا. فكيف لي أن أقطع الآن بأنني جزء واحد فقط من هذا المُرَكَّب الواضح؟ فبقدر ما يوجد من مصريّتي يوجد أيضًا من سودانيتي، وبقدر ما يوجد من مصريّتي وسودانيّتي يوجد من نمساويّتي.

سعيد أنا بهذا التنوع الجميل ومحظوظ به. راضٍ بمحبتي لهذه الأمكنة الثلاثة بقدر متشابه في القلب. ولا أعير اهتمامًا لمن يجدون في ذلك عيبًا أو نقصًا أو مبالغة في التسامح أو الخروج عن الهوية التي يريدون أن يصنفونها لي حسب أمزجتهم.
استطعت أن أكسر حدود سجن هويتي لمجرد خطوط الجنون التي تتبدّل كل يوم وأتمنى أن أنجحَ في كسر ما تبقّى من حدود فيما تبقّى لي من عمر!

(فيينّا في 31 يوليو 2005)